العربية التونسية الدارجة، لهجة من اللهجات العربية؟ أم لغة مُستقلة بذاتها؟

دولة تونس لها أسلوبها الفَريد من نوعه في الكَلام، فهو لطيف الاستماع ومميزٌ حديثُه. ويُسمى الكلام التونسي بـ “الدارجة” أو “التونسية”، وأقول “كلام” لأنه من المُعقد قليلًا وصفه باللهجة أو حتى باللغة. فللتونسيين رأيٌ مختلف، البعض يصفها بلهجة مُشتقة من العربية، والآخر يصفها باللغة الخاصة المستقلة عن العربية.

قدّمت عالمة اللغة كارين ماكنيل دراسة مُطوّلة بعنوان “التونسية العربية كلُغة مكتوبة” (TUNISIAN ARABIC AS A WRITTEN LANGUAGE) كرسالة دكتوراه عام 2023، تحدثت بإسهاب في متى بدأت التونسية الدارجة؟ وكيف انتشرت؟ في هذه المَقالة لخصّتُ أهم النِّقَاط المذكورة في الدراسة، مُعتمدة عليها بالمصادر، فالشكر موصول لكارين ماكنيل على دراستها الغنية، الجميلة والممُتعة.

التونسية العربية

تنامت مكانة تونس بقلوب العرب بعد ثورة الياسمين التي أشعلت الربيع العربي. فبعد أن كانت تُعرف بركودها عربيًا، أصبحت فجأةً منارة الأمل للشعوب العربية، فكان ممتعًا لي دراسة كلامهم والتعرّف على لغتهم الدارجة.

يُشار للتونسيَّة العربية باللهجة المغاربية أو الشمال إفريقية، وهناك عَلاقة غير متبادلة بينها وبين اللهجات العربية الشرقية. فاللهجات الشرقية خاصة المصرية واللبنانية المَعروفة بأساس الثقافة العربية، تختلف تمامًا عن اللهجات الشمال أفريقية.

وفي مثالٍ لاختلاف اللهجات، ذكرت الباحثة ماكنيل استماعها لنِقاش إذاعي تونسي، حيث تحدث المُذيع عن رواية مِصرية صادرة حديثًا “مش عاوزة أتجوز”، ذاكرًا اسم الرواية بالتونسية “ما نبيشي نعرس” وهو الاختلاف بين اللهجتين العربيتين في قول “لا أريد أن أتزوج”.

التونسية الدارجة إلكترونيًا

النقطة الأساسية للرسالة هي دراسة تطور العامية التونسية، وخاصةً استخدامها في الكتابة المطبوعة والإلكترونية. وعيبُها الأكبر أنها تعتمد مصدرًا واحدًا للكلمات التونسية وهو منتدى تونيزياسات.

  • كانت أهم النتائج ملاحَظة أن الكتابة بالتونسية في تونيزياسات مقارنةً بالفرنسية والعربية، ارتفعت كثيرًا بين 2010-2021.
  • خلال 2010، كانت التونسية أقل من خُمس المحتوى “19.7%”.
  • والنسبة الأعلى للعربية الفصحى والفرنسية، والقليل لصالح العربيزي.
  • لكن بحلول عام 2021 أصبحت التونسية الأساسية بنسبة “69.9%”.
  • ولم تكن الزيادة في جميع أقسام المنتدى، بل رُكِّزت في أقسام الأسرة والحياة والمواضيع العامة بنسبة 80%.
صورة من تونيزياسات للكتابة بالتونسية
“بعض الخواطر الفلسفية الدينية. لكن سؤال دائمًا أسأله لنفسي. ما الذي يجب عليّ فعله؟ كيف أعيش؟ كيف أرضي ربي؟ كيف أمشي للجنة رغم أخطائي وذنوبي؟
الدنيا متقلبة، البارحة صحيح اليوم مريض، البارحة مع بعض اليوم نتفرق، البارحة إخوة وأصدقاء واليوم أعداء، البارحة نضحك واليوم نبكي”.

وإن اطلعنا على التحليل البياني أدناه باعتباره ممثلًا للكتابة في المنتدى، نلاحظ أن:

  • الكتابة بالتونسية ارتفعت من 19.7% في 2010، إلى 69.9% في 2021.
  • والفُصحى تناقصت من 51.9% إلى 28.5%.
  • وبعد أن كانت الفرنسية بنسبة 23.1%، انخفضت إلى 1.5%.
  • أما العربيزي الذي اُستعمل بنسبة 5.2%، بحلول 2021 اختفى تماما.
رسم بياني مأخوذ من الدراسة، عن الاستعمال المختلف للغات في منتدى تونيزياسات.

تعميم التونسية المكتوبة

اللغة العامية “VERNACULAR” هي اللغة المُستخدمة بين أهالي قوم واحد وتختص بهم ولا يفهمها غيرهم. يقول جاستون باشلار في كتابه (المادية والعقلانية) “ما أن يوضع لفظ من ألفاظ اللغة العادية بين مزدوجتين، حتى يكشف عن تغير في منهج معرفة تتعلق بميدان جديد للتجربة” (عادل مصطفى: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة، 134).

استخدمت ماكنيل مصطلح “vernacularization” (تَعميم اللغة) لوصف انتقال المجتمعات العربية إلى الكتابة بلغتهم العامية. في إشارة لتحول اللغة من مُتحدَّثة فقط، للغة تُكتب وتُفهم دون حركات أو ضمائر.

كانت الكتابة التونسية في القرن العشرين نادرة، هناك بعض الحالات كالمسرحيّات لكنها هامشية ومحدودة. لكنها اُستعملت بوضوح فقط في قائمة الأطعمة، والمسلسلات والرسوم الكاريكاتورية. بعدها امتدت إلى اللوحات الإعلانية والإعلانات المطبوعة، ومع دخول الإنترنت والبِدء باستعمال الهواتف ومواقع التواصل، انتشرت بصورة أسرع.

من أوائل الصُحف التي استعملت التونسية كانت “الصريح”، في الصورة المَأخوذة من الدراسة، توضح استعمال الصحيفة لازدواجية اللسان في العربية الفصيحة والعربية التونسية.

العنوان تونسي قطعًا “سي سليّم عمّار، لا.. ماحّقوش” (سيد سليم عمار، لا يمكن أن يكون)، مُحتوى الخبر عربي فصيح وينقل عن المُتحدثين بالتونسية.

وسعيًا لِجعل رواياتها تنتشر في العالم العربي، أدرجت الروائية فتحية الهاشمي مُعجمًا تونسيًا نهاية روايتها “منّة موّال”، ليُسهل فهم الحوارات. فقد كانت من الأدباء الذين استعملوا التونسية والفرنسية في حديث الشخصيات لتسمح “بجعل الحديث أكثر أصالة وتعابير محليّة”.

في الصورة، الكاتبة فتحية الهاشمي. المصدر: فيسبوك فتحية الهاشمي.

هناك مدونات على الإنترنت تكتب باللغات جميعها، ففي مدونة بودورو الخاصة، كُتِبَت العربية الفُصحى في الشعار الرسمي (الكتابة بالأبيض) وفي ميثاق المدونة، والتونسية في المحتوى النَصِّي الأول. واسم الموقع بالتونسية الفرنسية “Boudourou Speciale” التي تعني “الرخيص الثمن”.

جمعية دارجة التونسية

لإثبات أحقية التونسية بأن تُصنف “لغة”، تأسست جمعية دارجة عام 2016 للتعريف بها وبأصلها، وسعيًا لنشرها وتقديمها للعالم.

التونسية ’ حسب جمعية دارجة’ ليست لهجة، بل هي لغة أصيلة، يتحدثها التونسيون منذ قديم الزمن وتحكي تاريخهم. تحتوي اللغة على قواعد أصلها بربري، ولاتيني، وإيطالي، وفرنسي وعربي، في خليط يُفسّر انفتاح الحضارة التونسية.

“أتكلم تونسي، نُفكر تونسي، نُحب أن نكتب بالتونسي، لغتنا ولغة أجدادنا”
واجهة جمعية دارجة على فيسبوك.

ما جَعل للجمعية شأنَها، إقامتها لندوات سنوية ومنحها جوائز للكتاب والروائيين المُستخدمين للتونسية في أعمالهم. واتخاذهم لشعار “التونسية لغة ليست لهجة” لرفع شأن التونسية كلغة أصلية.

التونسيّة، لغة أم لهجة؟

كان دافع الراغبين بتعريف التونسية على أنها لغة، مُنطلقًا من رغبتهم بالاستقلال عن العربية والفرنسية. ونفيهم وحدتهم اللغوية مع العالم العربي، لادعائهم أنهم لا يتحدثون اللغة ذاتها كـ “عرب”، ولا يتشاركون الهُوية السياسية. ومن أهم الأسباب التي تدفعهم، حسب أستاذ اللغة شارل فيرغسون “رغبتهم بلغة خاصة بهم، سعيًا للاستقلال وسمة للحُكم الوطني” (Charles A. Ferguson (1959) Diglossia,page:15).

بالمقابل، هناك مُعارضين لوصفها باللغة، فهي حسب قولهم “لهجة مشتقة عن العربية”. وعلى الرغم من اختلاف الآراء، إلا أن النقاشات بين الطرفين تكون بالتونسية المكتوبة. دلالة على أنها أصبحت “دارجة” بينهم، رغم الاختلاف.

حقيقةً، بأن هذا الجدال ليس جدالًا لُغويًا في جوهره، بل نِقاش اجتماعي سياسي عمّا هي تونس أو ما ينبغي لها أن تكون.

الشاب في الصورة حسنُ المظهر وعصري، يرتدي “الشاشية” جزءٌ من اللباس التونسي. والمكتوب “نتكلم تونسي، نفكر تونسي، ونحب أن نكتب تونسي، لغتي ولغة أجدادي”. في رسالة تُوضح التونسية بأنها الهُوِيَّة الأصلية لتونس.

الكتابة اللاتينية الظاهرة هي أبجدية اللغة المالطية المُنحدرة من اللغة العربية الصقلية القدمية، وتتشارك مع العربية التونسية في الكثير من المفردات الأساسية. وهي اللغة الأساسية لمالطا ويُعتبر سكانها غير عرب لأن العربية ليست لُغتهم الأم ولا يتحدثوها. هذه الأبجدية نموذج للواقع اللغوي البديل في تونس، أولًا بقطع الرابط مع العربية والأمَّة العربية، والثاني بأن التونسيين أمَة مُستقلة بلغتهم.

كانت الروائيّة فاتن الفازع أول من كتبت رواياتها بالتونسية، وهي تدعم استعمالها، خاصة بعد أن تفاجأت بكثرّة الإقبال على رواياتها، وحسب قولها بأن “هذا ما يُريده الشعب التونسي”. بكل الأحوال، من الواضح “حسب الدراسة” أن الكتابة بالعامية من شأنه رفعُ مَقامها، وزيادة الإقبال على القراءة.

أضف تعليق

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ